سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


النون: الحوت ويجمع على نينان، وروي: النينان قبله الحمر. الفرج: يطلق على الحر والذكر مقابل الحر وعلى الدبر. قال الشاعر:
وأنت إذا استدبرته شد فرجه *** مضاف فويق الأرض ليس بأعزل
{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين}.
طوّل الأخباريون في قصة أيوب، وكان أيوب رومياً من ولد إسحاق بن يعقوب، استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله، وكان له سبع بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة. وقيل دون ذلك فقالت له امرأته يوماً لو دعوت الله فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال: أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحياء ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروي أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابناً وذكروا كيفية في ذهاب ماله وأهله وتسليط إبليس عليه في ذلك الله أعلم بصحتها.
وقرأ الجمهور {أني} بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلاً {أني} وإما على إجراء {نادى} مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين و{الضُّر} بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين، وقد ألطف أيوب في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ولم يعين الضر الذي مسه.
واختلف المفسرون في ذلك على سبعة عشر قولاً أمثلها أنه نهض ليصلي فلم يقدر على النهوض، فقال {مسني الضر} إخباراً عن حالة لا شكوى لبلائه رواه أنس مرفوعاً، والألف واللام في {الضر} للجنس تعم {الضر} في البدن والأهل والمال. وإيتاء أهله ظاهره أن ما كان له من أهل رده عليه وأحياهم له بأعيانهم، وآتاه مثل أهله مع أهله من الأولاد والأتباع، وذكر أنه جعل له مثلهم عدة في الآخرة.
وانتصب {رحمة} على أنه مفعول من أجله أي لرحمتا إياه {وذكرى} منا بالإحسان لمن عندنا أو {رحمة} منا لأيوب {وذكرى} أي موعظة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب.
وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: كان ذو الكفل عبداً صالحاً ولم يكن نبياً. وقال الأكثرون: هو نبي فقيل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع، والكفل النصيب والحظ أي ذو الحظ من الله المحدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح. وانتصب {مغاضباً} على الحال. فقيل: معناه غضبان وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكاً، نحو: عاقبت اللص وسافرت. وقيل {مغاضباً} لقومه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه فأوعدهم بالعذاب، ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج. وقيل {مغاضباً} للملك حزقيا حين عينه لغزو ملك كان قد عاب في بني إسرائيل فقال له يونس: آلله أمرك بإخراجي؟ قال: لا، قال فهل سماني لك؟ قال: لا، قال ههنا غيري من الأنبياء، فألح عليه فخرج {مغاضباً} للملك. وقول من قال {مغاضباً} لربه وحكى في المغاضبة لربه كيفيات يجب اطّراحه إذ لا يناسب شيء منها منصب النبوة، وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين، وابن مسعود من الصحابة بأن يكون معنى قولهم {مغاضباً} لربه أي لأجل ربه ودينه، واللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به. وقرأ أبو شرف مغضباً اسم مفعول.
{فظن أن لن نقدر عليه} أي نضيق عليه من القدر لا من القدرة، وقيل: من القدرة بمعنى {أن لن نقدّر عليه} الابتلاء. وقرأ الجمهور {نقدر} بنون العظمة مخففاً. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب بضم الياء وفتح الدال مخففاً، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال، وعليّ بن أبي طالب واليماني بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة، والزهري بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة.
{فنادى في الظلمات} في الكلام جمل محذوفة قد أوضحت في سورة والصافات، وهناك نذكر قصته إن شاء الله تعالى وجمع {الظلمات} لشدة تكاثفها فكأنها ظلمة مع ظلمة. وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت آخر فصار في ظلمتي بطنَي الحوتين وظلمة البحر. وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر، و{أن} في {أن لا إله إلا أنت} تفسيرية لأنه سبق {فنادى} وهو في معنى القول، ويجوز أن يكون التقدير بأنه فتكون مخففة من الثقيلة حصر الألوهية فيه تعالى ثم نزهه عن سمات النقص ثم أقر بما بعد ذلك.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلاّ استجيب له» و{الغم} ما كان ناله حين التقمه الحوت ومدة بقائه في بطنه. وقرأ الجمهور: {ننجي} مضارع أنجى، والجحدري مشدداً مضارع نجّى. وقرأ ابن عامر وأبو بكر نجى بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة، وكذلك هي في مصحف الإمام ومصاحف الأمصار بنون واحدة، واختارها أبو عبيد لموافقة المصاحف فقال الزجّاج والفارسي هي لحن. وقيل: هي مضارع أدغمت النون في الجيم ورد بأنه لا يجوز إدغام النون في الجيم التي هي فاء الفعل لاجتماع المثلين كما حذفت في قراءة من قرأ ونزل الملائكة يريد وننزل الملائكة، وعلى هذا أخرجها أبو الفتح. وقيل: هي فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء كما سكنها من قرأ وذر وإما بقي من الربا والمقام مقام الفاعل ضمير المصدر أي نجى، هو أي النجاء المؤمنين كقراءة أبي جعفر {ليجزي قوماً} أي وليجزي هو أي الجزاء، وقد أجاز إقامة غير المفعول من مصدر أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو مجرور الأخفش والكوفيون وأبو عبيد، وذلك مع وجود المفعول به وجاء السماع في إقامة المجرور مع وجود المفعول به نحو قوله:
أتيح لي من العدا نذيراً *** به وقيت الشر مستطيرا
وقال الأخفش: في المسائل ضرب الضرب الشديد زيداً، وضرب اليومان زيداً، وضرب مكانك زيداً وأعطى إعطاء حسن أخاك درهماً مضروباً عبده زيداً. وقيل: ضمير المصدر أقيم مقام الفاعل و{المؤمنين} منصوب بإضمار فعل أي {وكذلك ننجي} هو أي النجاء {ننجي المؤمنين} والمشهور عند البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره إلا أن صاحب اللباب حكى الخلاف في ذلك عن البصريين، وأن بعضهم أجاز ذلك.
{لا تذرني فرداً} أي وحيداً بلا وارث، سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ثم رد أمره إلى الله فقال {وأنت خير الوارثين} أي إن لم ترزقني من يرثني فأنت خير وارث، وإصلاح زوجه بحسن خلقها، وكانت سيئة الخلق قاله عطاء ومحمد بن كعب وعون بن عبد الله. وقيل: إصلاحها للولادة بعد أن كانت عاقراً قاله قتادة. وقيل: إصلاحها رد شبابها إليها، والضمير في {إنهم} عائد على الأنبياء السابق ذكرهم أي إن استجابتنا لهم في طلباتهم كان لمبادرتهم الخير ولدعائهم لنا.
{رغباً ورهباً} أي وقت الرغبة ووقت الرهبة، كما قال تعالى {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} وقيل: الضمير يعود على {زكريا} و{زوجه} وابنهما يحيى. وقرأت فرقة يدعونا حذفت نون الرفع وطلحة بنون مشددة أدغم نون الرفع في ن ضمير النصب. وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهب بن عمرو والنحوي وهارون وأبو معمر والأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمر و{رغباً ورهباً} بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما.
وقرأ فرقة: بضم الراءين وسكون الغين والهاء، وانتصب {رغباً ورهباً} على أنهما مصدران في موضع الحال أو مفعول من أجله.
{والتي أحصنت فرجها} هي مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام، والظاهر أن الفرج هنا حياء المرأة أحصنته أي منعته من الحلال والحرام كما قالت {ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً} وقيل: الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل لما قرب منها لينفخ حيث لم يعرف، والظاهر أن قوله {فنفخنا فيها من روحنا} كناية عن إيجاد عيسى حياً في بطنها، ولا نفخ هناك حقيقة، وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف. وقيل: هناك نفخ حقيقة وهو أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وأسند النفخ إليه تعالى لما كان ذلك من جبريل بأمره تعالى تشريفاً. وقيل: الروح هنا جبريل كما قال {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها} والمعنى {فنفخنا فيها} من جهة جبريل وكان جبريل قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.
قال الزمخشري: فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال الله تعالى {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} أي أحييته، وإذا ثبت ذلك كان قوله {فنفخنا فيها من روحنا} ظاهر الإشكال لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها، ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي {فنفخنا في} ابنها {من روحنا} وقوله قلت معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعدياً، والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع وغير متعد استعمله هو في قوله أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك. وأفرد {آية} لأن حالهما لمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل، وإن كان في مريم آيات وفي عيسى آيات لكنه هنا لحظ أمر الولادة من غير ذكر، وذلك هو آية واحدة وقوله {للعالمين} أي لمن اعتبر بها من عالمي زمانها فمن بعدهم، ودل ذكر مريم مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر، ومن منع تنبؤ النساء قال: ذكرت لأجل عيسى وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه ويحيى للقرابة التي بينهم.


الحدب: المسنم من الأرض كالجبل والكدية والقبر ونحوه. النسلان: مقاربة الخطو مع الإسراع قال الشاعر:
عسلان الذئب أمسى قارباً *** برد الليل عليه فنسل
الحصب: الحطب بلغة الحبشة إذا رمى به في النار قبل وقبل أن يرمي به لا يسمى حصباً. وقيل: الحصب ما توقد به النار.
{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}.
والظاهر أن قوله {أمتكم} خطاب لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم و{هذه} إشارة إلى ملة الإسلام، أي إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها ملة واحدة غير مختلفة، ويحتمل أن تكون {هذه} إشارة إلى الطريقة التي كان عليها الأنبياء المذكورون من توحيد الله تعالى هي طريقتكم وملتكم طريقة واحدة لا اختلاف فيها في أصول العقائد، بل ما جاء به الأنبياء من ذلك هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: معنى {أمة واحدة} مخلوقة له تعالى مملوكة له، فالمراد بالأمة الناس كلهم. وقيل: الكلام يحتمل أن يكون متصلاً بقصة مريم وابنها أي {وجعلناها وابنها آية للعالمين} بأن بعث لهم بملة وكتاب، وقيل لهم {إن هذه أمتكم} أي دعا الجميع إلى الإيمان بالله وعبادته.
ثم أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا {وتقطعوا أمرهم} وقرأ الجمهور {أمتكم} بالرفع خبر إن {أمة واحدة} بالنصب على الحال، وقيل بدل من {هذه} وقرأ الحسن {أمتكم} بالنصب بدل من {هذه}. وقرأ أيضاً هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني {أمتكم أمة واحدة} برفع الثلاثة على أن {أمتكم} و{أمة واحدة} خبر {إن} أو {أمة واحدة} بدل من {أمتكم} بدل نكرة من معرفة، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي {أمة واحدة} والضمير في {وتقطعوا} عائد على ضمير الخطاب على سبيل الالتفات أي وتقطعتم.
ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة كأن هذا الفعل ما صدر من المخاطب لأن في الإخبار عنهم بذلك نعياً عليهم ما أفسدوه، وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم ويقول ألا ترى إلى ما ارتكب هؤلاء في دين الله جعلوا أمر دينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء لهذا نصيب ولهذا نصيب، تمثيلاً لاختلافهم ثم توعدهم برجوع هذه الفرقة المختلفة إلى جزائه.
وقيل: كل من الثابت على دينه الحق والزائغ عنه إلى غيره. وقرأ الأعمش زبراً بفتح الباء جمع زبرة، ثم ذكر حال المحسن وأنه لا يكفر سعيه والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله شكور ولا لنفي الجنس فهو أبلغ من قوله فلا يكفر سعيه، والكتابة عبارة عن إثبات عمله الصالح في صحيفة الأعمال ليثاب عليه، ولا يضيع، والكفران مصدر كالكفر. قال الشاعر:
رأيت أناساً لا تنام جدودهم *** وجدي ولا كفران لله نائم
وفي حرف عبد الله لا كفر و{لسعيه} متعلق بمحذوف، أي نكفر {لسعيه} ولا يكون متعلقاً بكفران إذ لو كان متعلقاً به لكان اسم لا مطولاً فيلزم تنوينه.
وقرأ الجمهور {وحرام} وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو حنيفة وأبو عمرو في رواية وحِرْم بكسر الحاء وسكون الراء. وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء. وقرأ عكرمة وحُرِمٌ بكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضاً وابن المسيب وقتادة أيضاً بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي بخلاف عنهما، وأبو العالية وزيد بن عليّ بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي. وقرأ ابن عباس أيضاً بفتح الحاء والراء والميم على المضيّ. وقرأ اليماني وحُرِّمَ بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم. وقرأ الجمهور {أهلكناها} بنون العظمة.
وقرأ السلمي وقتادة بتاء المتكلم، واستعير الحرام للمتنع وجوده ومنه {إن الله حرمهما على الكافرين} ومعنى {أهلكناها} قدرنا إهلاكها على ما هي عليه من الكفر، فالإهلاك هنا إهلاك عن كفر و{لا} في {لا يرجعون} صلة وهو قول أبي عبيد كقولك: ما منعك أن لا تسجد، أي يرجعون إلى الإيمان والمعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم إهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إلى الإيمان إلى أن تقوم القيامة، فحينئذ يرجعون ويقولون {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} وغياً بما قرب من مجيء الساعة وهو فتح {يأجوج ومأجوج} وقرئ {إنهم} بالكسر فيكون الكلام قد تم عند قوله {أهلكناها} ويقدر محذوف تصير به {وحرام على قرية أهلكناها} جملة أي ذاك، وتكون إشارة إلى العمل الصالح المذكور في قسيم هؤلاء المهلكين، والمعنى {وحرام على} أهل {قرية} قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح ينجون به من الإهلاك ثم أكد ذلك وعلله بأنهم {لا يرجعون} عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك فالمحذوف مبتدأ والخبر {وحرام} وقدره بعضهم متقدماً كأنه قال: والإقالة والتوبة حرام. وقراءة الجمهور بالفتح تصح على هذا المعنى وتكون {لا} نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون.
وقيل {أهلكناها} أي وقع إهلاكنا إياهم ويكون رجوعهم إلى الدنيا فيتوبون بل هم صائرون إلى العذاب. وقيل: الإهلاك بالطبع على القلوب، والرجوع هو إلى التوبة والإيمان. وقال الزجاج {وحرام على قرية أهلكناها} حكمنا بإهلاكها أن نتقبل أعمالهم لأنها {لا يرجعون} أي لا يتوبون، ودل على هذا المعنى قوله قبل {فلا كفران لسعيه} أي يتقبل عمله ثم ذكر هذا عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله.
وقال أبو مسلم بن بحر {حرام} ممتنع و{أنهم لا يرجعون} انتقام الرجوع إلى الآخرة، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع فالمعنى أنه يجب رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة ويكون الغرض إنكار قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة. وقيل: الحرام يجيء بمعنى الواجب يدل عليه {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا} وترك الشرك واجب. وقالت الخنساء:
حرام علي أن لا أرى الدهر باكيا *** على شجوه إلاّ بكيت على صخر
وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق الضمير على ضده، وعلى هذا فقال مجاهد والحسن {لا يرجعون} عن الشرك. وقال قتادة ومقاتل إلى الدنيا. قال ابن عطية: ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بيّن وذلك أنه ذكر من عمل صالحاً وهو مؤمن ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ولا يرجعون إلى معاد فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء أي وممتنع على الكفرة المهلكين {أنهم لا يرجعون} بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه، فيكون لا على بابها والحرام على بابه. وكذلك الحرم فتأمله انتهى.
و {حتى} قال أبو البقاء متعلقة في المعنى بحرام أي يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ولا عمل لها في {إذا}. وقال الحوفي {حتى} غاية، والعمل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلقت {حتى} واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي {حتى} التي تحكي الكلام، والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني إذا وما في حيزها انتهى.
وقال ابن عطية: هي متعلقة بقوله {وتقطعوا} ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق بيرجعون، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب {إذ} لأنها تقتضي جواباً هو المقصود ذكره انتهى. وكون {حتى} متعلقة فيه بعد من حيث ذكر الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وهو أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي هو كان دين التوحيد.
وجواب {إذا} محذوف تقديره {قالوا يا ويلنا} قاله الزجاج وجماعة أو تقديره، فحينئذ يبعثون {فإذا هي شاخصة}.
أو مذكور وهو واقترب على زيادة الواو قاله بعضهم، وهو مذهب الكوفيين وهم يجيزون زيادة الواو والفاء في فإذا هي قاله الحوفي. وقال الزمخشري: وإذا هي المفاجأة وهي تقع في المفاجآت سادة مسد الفاء لقوله تعالى {إذا هم يقنطون} فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد ولو قيل {إذا هي شاخصة} كان سديداً.
وقال ابن عطية: والذي أقول أن الجواب في قوله {فإذا هي شاخصة} وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرّم عليهم امتناعه، وتقدم الخلاف في {فتحت} في الأنعام ووافق ابن عامر أبو جعفر وشيبة وكذا التي في الأنعام والقمر في تشديد التاء، والجمهور على التخفيف فيهن و{فتحت يأجوج} على حذف مضاف أي سد {يأجوج ومأجوج} وتقدم الخلاف في قراءة {يأجوج ومأجوج} والظاهر أن ضمير {وهم} عائد على {يأجوج ومأجوج} أي يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويعمون الأرض. وقيل: الضمير للعالم ويدل عليه قراءة عبد الله وابن عباس من كل جدث بالثاء المثلثة وهو القبر. وقرئ بالفاء الثاء للحجاز والفاء لتميم وهي بدل من الثاء كما أبدلوا الثاء منها قالوا وأصله مغفور.
وقرأ الجمهور {ينسلون} بكسر السين وابن أبي إسحاق وأبو السمال بضمها {واقترب الوعد الحق} أي الوعد بالبعث الحق الذي لا شك فيه {واقترب} قيل: أبلغ في القرب من قرب وضمير {هي} للقصة كأنه قيل: فإذا القصة والحادثة {أبصار الذين كفروا} {شاخصة} ويلزم أن تكون {شاخصة} الخبر و{أبصار} مبتدأ، ولا يجوز ارتفاع أبصار شاخصة لأنه يلزم أن تكون بعد ضمير الشأن، أو القصة جملة تفسر الضمير مصرح بجزأيها، ويجوز ذلك على مذهب الكوفيين. وقال الزمخشري: {هي} ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا انتهى. ولم يذكر غير هذا الوجه وهو قول للفراء. قال الفراء: {هي} ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ومجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك قول الشاعر:
فلا وأبيها لا تقول خليلتي *** إلاّ قرّ عني مالك بن أبي كعب
وذكر أيضاً الفراء أن {هي} عماد يصلح في موضعها هو وأنشد:
بثوب ودينار وشاة ودرهم *** فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي في إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ أجاز هو القائم زيد على أن زيد هو المبتدأ والقائم خبره، وهو عماد وأصل المسألة زيد هو القائم، ويقول: أصله هذه فإذا {أبصار الذين كفروا} هي {شاخصة} فشاخصة خبر عن {أبصار} وتقدم مع العماد، ويجيء على مذهب من يجيز العماد قبل خبره نكرة، وذكر الثعلبي وجهاً آخر وهو أن الكلام ثم عند قوله: {فإذا هي} أي بارزة واقعة يعني الساعة، ثم ابتدأ فقال {شاخصة أبصار الذين كفروا} وهذا وجه متكلف متنافر التركيب.
وروى حذيفة لو أن رجلاً اقتنى فلو أبعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة يعني في مجيء الساعة إثر خروجهم.
{يا ويلنا} معمول لقول محذوف. قال الزمخشري: تقديره يقولون وهو في موضع الحال من الذين كفروا وتقدم قول الزجاج أن هذا القول جواب {إذا} والشخوص إحداد النظر دون أن يطرف في غفلة من هذا انتهى. أي مما وجدنا الآن وتبينا من الحقائق ثم أضربوا عن قولهم {قد كنا في غفلة} وأخبروا بما قد كانوا تعمدوه من الكفر والإعراض عن الإيمان فقالوا {بل كنا ظالمين} والخطاب بقوله {إنكم وما تعبدون من دون الله} للكفار المعاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما أهل مكة ومعبوداتهم هي الأصنام.
وقرأ الجمهور {حصب} بالحاء والصاد المهملتين، وهو ما يحصب به أي يرمى به في نار جهنم. وقبل أن يرمي به لا يطلق عليه حصب إلا مجازاً. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس وهو مصدر يراد به المفعول أي المحصوب. وقرأ ابن عباس: بالضاد المعجمة المفتوحة وعنه إسكانها، وبذلك قرأ كثير عزة: والحضب ما يرمى به في النار، والمحضب العود أو الحديدة أو غيرهما مما تحرك به النار. قال الشاعر:
فلا تك في حربنا محضباً *** فتجعل قومك شتى شعوبا
وقرأ أُبي وعليّ وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي حطب بالطاء، وجمع الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمهم وحسرتهم برؤيتهم معهم فيها إذ عذبوا بسببهم، وكانوا يرجون الخير بعبادتهم فحصل لهم الشر من قبلهم ولأنهم صاروا لهم أعداء ورؤية العدوّ مما يزيد في العذاب. كما قال الشاعر:
واحتمال الأذى ورؤية جابيه *** غذاء تضنى به الأجسام
{أنتم لها} أي للنار {واردون} الورود هنا ورود دخول {لو كان هؤلاء} أي الأصنام التي تبعدونها {آلهة ما وردوها} أي ما دخلوها ودل على أنه ورود دخول قوله {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وقرأ الجمهور {آلهة} بالنصب على خبر {كان}. وقرأ طلحة بالرفع على أن في {كان} ضمير الشأن {وكل فيها} أي كل من العابدين ومعبوداتهم.
{لهم فيها زفير} وهو صوت نفس المغموم يخرج من القلب، والظاهر أن الزفير إنما يكون ممن تقوم به الحياة وهم العابدون والمعبودون ممن كان يدعي الإلهية كفرعون وكغلاة الإسماعيلية الذين كانوا ملوك مصر من بني عبيد الله أول ملوكهم، ويجوز أن يجعل الله للأصنام التي عبدت حياة فيكون لها زفير. وقال الزمخشري: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم فيها إن لم يكن الزافرين إلاّ وهم فيها {لا يسمعون} وروي عن ابن مسعود أنهم يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون وقال تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً} وفي سماع الأشياء روح فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل {لا يسمعون} ما يسرهم من كلام الزبانية.


السجل: الصحيفة.
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قل رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}.
سبب نزول {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قول ابن الزبعري حين سمع {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم: «هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} الآية. وقيل: لما اعترض ابن الزبعري قيل لهم: ألستم قوماً عرباً أو ما تعلمون أن من لمن يعقل وما لما لا يعقل، فعلى القول الأول يكون ابن الزبعري قد فهم من قوله {وما تعبدون} العموم فلذلك نزل قوله {إن الذين سبقت لهم} الآية تخصيصاً لذلك العموم، وعلى هذا القول الثاني يكون ابن الزبعري رام مغالطة، فأجيب بأن من لمن يعقل وما لما لا يعقل فبطل اعتراضه.
{والحسنى} الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن، إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والظاهر من قوله {مبعدون} فما بعده أن من سبقت له الحسنى لا يدخل النار. وروي أن علياً كرم الله وجهه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول {لا يسمعون حسيسها} والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الأجرام، وهذا الإبعاد وانتفاء سماع صوتها قيل هو قبل دخول الجنة. وقيل: بعد دخولهم واستقرارهم فيها، والشهوة طلب النفس اللذة.
وقال ابن عطية: وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أنه في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبيّ ولا ملك إلاّ جثا على ركبتيه و{الفزع الأكبر} عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو {الفزع الأكبر} وإن خصص بشيء فيجب أن يقصد لا عظم هو له انتهى.
وقيل: {الفزع الأكبر} وقوع طبق جهنم عليها قاله الضحاك. وقيل: النفخة الأخيرة. وقيل: الأمر بأهل النار إلى النار، روي عن ابن جبير وابن جريج والحسن. وقيل: ذبح الموت. وقيل: إذا نودي {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وقيل {يوم نطوي السماء} ذكره مكي.
{وتتلقاهم الملائكة} بالسلام عليهم. وعن ابن عباس: تلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} بالكرامة والثواب والنعيم. وقرأ أبو جعفر {لا يحزنهم} مضارع أحزن وهي لغة تميم، وحزن لغة قريش، والعامل في يوم {لا يحزنهم} و{تتلقاهم} وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من العائد المحذوف في {توعدون} فالعامل فيه {توعدون} أي أيوعدونه أو مفعولاً باذكر أو منصوباً بأعني. وأجاز الزمخشري أن يكون العامل فيه {الفزع} وليس بجائز لأن {الفزع} مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر.
وقرأ الجمهور {نطوي} بنون العظمة. وفرقة منهم شيبة بن نصاح يطوي بياء أي الله، وأبو جعفر وفرقة بالتاء مضمومة وفتح الواو و{السماء} رفعاً والجمهور {السجل} على وزن الطمر. وأبو هريرة وصاحبه وأبو زرعة بن عمرو بن جرير بضمتين وشد اللام، والأعمش وطلحة وأبو السماك {السجل} بفتح السين والحسن وعيسى بكسرهما، والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة. وقال أبو عمر: وقراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن. وقال مجاهد {السجل} الصحيفة. وقيل: هو مخصوص من الصحف بصحيفة العهد، والمعنى طياً مثل طي السجل، وطي مصدر مضاف إلى المفعول، أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، والأصل {كطيّ} الطاوي {السجل} فحذف الفاعل وحذفه يجوز مع المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي كما يُطْوَى السجل. وقال ابن عباس وجماعة {السجل} ملك يطوى كتب بني آدم إذا رفعت إليه. وقالت فرقة: هو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً للفاعل. وقال أبو الفضل الرازي: الأصح أنه فارسي معرب انتهى. وقيل: أصله من المساجلة وهي من {السجل} وهو الدلو ملأى ماء. وقال الزجاج: هو رجل بلسان الحبش.
وقرأ الجمهور: للكتاب مفرداً وحمزة والكسائي وحفص {للكتب} جمعاً وسكن التاء الأعمش. وقال الزمخشري: {أول خلق} مفعول نعيد الذي يفسره {نعيده} والكاف مكفوفة بما، والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قلت: أو له إيجاده من العدم، فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم. فإن قلت: ما بال خلق منكراً؟ قلت: هو كقولك: هو أول رجل جاءني تريد أول الرجال، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى {أول خلق} أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة، أي نعيد مثل الذي بدأناه {نعيده} و{أول خلق} ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى انتهى.
والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة كما ذكر بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف. و{أول خلق} مفعول {بدأنا} والمعنى نعيد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له، أي كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود. في ما قدره الزمخشري تهيئة {بدأنا} لأن ينصب {أول خلق} على المفعولية. وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك وارتكاب إضمار يعيد مفسراً بنعيده وهذه عجمة في كتاب الله، وأما قوله: ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره {نعيده} فهو ضعيف جداً لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف، فليس مذهب الجمهور إنما ذهب إلى ذلك الأخفش وكونها اسماً عند البصريين غير مخصوص بالشعر. وقال ابن عطية: يحتمل معنيين أحدهما: أن يكون خبراً عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولاً على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور. والثاني أن يكون خبراً عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ويؤيده «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» {كما بدأنا أول خلق نعيده} وقوله {كما بدأنا} الكاف متعلقة بقوله {نعيده} انتهى.
وانتصب {وعداً} على أنه مفعول مصدر مؤكداً لمضمون الجملة الخبرية قبله {إنّا كنا فاعلين} تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل و{الزبور} الظاهر أنه زبور داود وقاله الشعبي، ومعنى هذه الآية موجود في زبور داودوقرأناه فيه و{الذكر} التوراة قاله ابن عباس. وقيل {الزبور} ما بعد التوراة من الكتب و{الذكر} التوراة وقيل {الزبور} يعم الكتب المنزلة و{الذكر} اللوح المحفوظ. {الأرض} قال ابن عباس أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدسة {يرثها} أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والإشارة في قوله {إن في هذا} أي المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعيد والوعيد والمواعظ البالغة لبلاغاً كفاية يبلغ بها إلى الخير. وقيل: الإشارة إلى القرآن جملة، وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم.
{وللعالمين} قيل خاص بمن آمن به. وقيل: عام وكونه {رحمة} للكافر حيث أخر عقوبته، ولم يستأصل الكفار بالعذاب قال معناه ابن عباس. قال: عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون معناه {وما أرسلناك} للعالمين {إلا رحمة} أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض انتهى.
ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد {إلا} بالفعل قبلها إلا أن كان العامل مفرغاً له نحو ما مررت إلاّ بزيد. وقال الزمخشري: إنما تقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع، المثلان في هذه الآية لأن {إنما يوحى إليّ} مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد و{إنما إلهكم إله واحد} بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية انتهى.
وأما ما ذكره في {إنما} إنها لقصر ما ذكر فهو مبني على إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر، وإنما مع أن كهي مع كان ومع لعل، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذلك لا تفيده مع أن وأما جعله {أنما} المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها يدل على القصر، فلا نعلم الخلاف إلاّ في {إنما} بالكسر، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منع مع ما بعدها مصدر، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة، ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلاّ التوحيد. وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد وفي الآية دليل على تظافر المنقول للمعقول وأن النقل أحد طريقي التوحيد، ويجوز في ما من {إنما} أن تكون موصولة.
{فهل أنتم مسلمون} استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى {آذنتكم} أعلمتكم وتتضمن معنى التحذير والنذارة {على سواء} لم أخص أحداً دون أحد، وهذا الإيذان هو إعلام بما يحل بمن تولى من العقاب وغلبة الإسلام، ولكني لا أدري متى يكون ذلك و{إن} نافية و{أدري} معلقة والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري، وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب {أقريب} {ما توعدون} {أم بعيد} لم تكن فاصلة وكثيراً ما يرجح الحكم في الشيء لكونه فاصلة آخر آية. وعن ابن عامر في رواية {وإن أدري} بفتح الياء في الآيتين تشبيهاً بياء الإضافة لفظاً، وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلاّ بعامل، وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء والمعنى أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء.
{وإن أدري لعله فتنة} أي لعل تأخير هذا الموعد امتحان لكم لننظر كيف تعملون، أو يمتنع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو حكمة، ولعل هنا معلقه أيضاً وجملة الترجي هي مصب الفعل، والكوفيون يجرون لعل مجرى هل، فكما يقع التعليق عن هل كذلك عن لعل، ولا أعلم أحداً ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهراً فيها كقوله
{وما يدريك لعل الساعة قريب} {وما يدريك لعله يزكى} وقيل {إلى حين} إلى يوم القيامة. وقيل: إلى يوم بدر.
وقرأ الجمهور {قل رب} أمراً بكسر الباء. وقرأ حفص قال وأبو جعفر {رب} بالضم. قال صاحب اللوامح: على أنه منادى مفرد وحذف حرف النداء فيما جاز أن يكون وصفاً لأي بعيد بابه الشعر انتهى. وليس هذا من نداء النكرة المقبل عليها بل هذا من اللغات الجائزة في يا غلامي، وهي أن تبنيه على الضم وأنت تنوي الإضافة لما قطعته عن الإضافة وأنت تريدها بنيته، فمعنى {رب} يا ربي. وقرأ الجمهور {احكم} على الأمر من حكم. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ربي بإسكان الياء أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر. وقرأت فرقة أحكم فعلاً ماضياً. وقرأ الجمهور {تصفون} بتاء الخطاب. وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على أُبيّ على ما يصفون بياء الغيبة، ورويت عن ابن عامر وعاصم.

1 | 2 | 3 | 4